القطيف والتغيير
"...وأنهم لا ينفكون عن التفكير فينا وفي همومنا. فإن كانوا حقًا مهتمين لأمرنا فإن طلابهم كثرٌ هنا فليتواصلوا معهم لاستخراج فتوى لا تمنع الناس من حضور الحفلات الغنائية بل بفتوى توجب أن يحضر الناس في القطيف مجالس أهل البيت في تلك الليلة..."
لا شك بأن
التغيير الذي يحدث داخل التضاريس التي تسمى السعودية من قطيفها إلى حجازها ومن
شمالها إلى جنوبها إنما هو تغيير
جارف للموروث الذي ألفوه طيلة الزمن الذي عاشوه،
فآباء هذا الجيل إن أراد أحد منهم أن يأخذ بقبس جذوة تخالف مجتمعه رَأيتَهُ قد ترك البلاد
إلى حيث محطات الهوى الذي اعتاد عليها المُتعبون من قسوة مجتمعهم واختلافهم معه،
وإذا عادوا منها رأيتهم ارتدوا لباسًا خلعوه وارتدوا أقنعة ليسوا بمؤمنين بها،
ولكن هكذا فرضت عليهم غريزة البقاء وضرورة الحياة. لو سألتهم عن لهوهم خارج البقعة
التي يعرفهم الناس فيها لأجابوك حتمًا بخطأهم وضعفهم اتجاه شهواتهم، هم لا يرونه
خطأً لأنهم يفهمون فلسفة ما يقومون به وإنما يرونه كذلك لأن مجتمعهم جعلهم يؤمنون
بذلك، وشتان ما بين الإيمان بالشيء والتعبد بما وجدنا عليه الآباء.
القطيف ليست أرضًا مقدسة طاهرة تنجسها حفلات الغناء،
وكذلك فإنها ليست أرضًا شيطانية تطهرها المآذن والمواكب، القطيف ليست ملكًا
للأقدمين فنخشى على إرثهم من أن يضيع وليست ملكًا للأحفاد حتى نخشى على مصيرهم الفكري،
كما أن هناك في القطيف جمعٌ ممن يرفضون حفلة للغناء فإن هناك من سيسارع للدخول
فيها. القطيف كغيره من المجتمعات يحوي التقليدين الذين ليسوا بملائكة (ولا داعي
لوصفهم بمدعي الطهر) الذين قادوا حركة التغيير في شطر من الزمان فالتف حولهم
المجتمع (لأنهم وربما كانوا يتحدثون بصوته)، وخسروا دفة المركب مؤخرًا لأن لغتهم
وتوجهاتهم بدأت تختلف عن لغة عصرهم، فالتقفها من هو أقوى منهم بكثير من خارج
الرقعة وممن فهم بأن هذا المجتمع كلت أسنانه من صراعات ليس لها جدوى ولكنه لازال
يأكل في بعضه ولا يشبع حتى ابتلع نفسه (١)، و تركه مجتمعه ليبحث عمن يتكلم بصوته
فعندما تنبه التقليديين بضياع حصتهم من المجتمع استصرخوه أن يعود لجعبتهم ،ولكن هل
يعود وهم لازالو يتحدثوا بنفس اللغة؟!
قاطنو الضفة
الأخرى من النهر ليسوا بشياطين يجب التطهر منهم أو التعامل معهم بأنهم غير موجودين
أو أن تتم هناك محاولات لإقصائهم من ساحة المشهد، فذلك لن يزيد الوضع إلا سوءًا.
مادام خطاب التقليديين لم يتغير فإن تسارع خروج الناس من جعبتهم سيبقى في تزايد
ولن يتوقف حتى نضوب آخر شخص وقف معهم. أهل هذه الضفة لا تجمعهم قاعدة مشتركة عريضة
فكل مجموعة منهم تطفوا على النهر بخشبة سرعان ما سيضعف تشبثهم بها حتى يسقطوا
ويجرفهم النهر إلى المجهول. لهذا فإن هذا الوقت قد يكون أفضل الأوقات لبدء حركة
التغيير الحقيقة وإن أي تقاعس سيؤدي إلى تفرقهم وإنشائهم لمجتمعات صغيرة داخل
المجتمع الكبير، مجتمعات صغيرة قد تحمل في طياتها حقدًا على المجتمع الذي لا
يقدرهم ولا يفهمهم ويقصيهم، وستتزايد هذه المجموعات الصغيرة وتثخن الحدود
والاختلافات بينها وعند ذلك سيتغير المجتمع ويبدأ في مرحلة جديدة.
رُوجت لنا قصص
كثيرة واشربناها منذ كنا أطفال بأن هناك أصحاب عمائم وقفوا أمام مشاريع التغرييب
والاستعمار، فأفتوا يومًا بحرمة التنباك فتعطلت مصالح الدول الكبرى آن ذاك، بل
وكان رجال الدولة يقفون مرعوبين اتجاههم ويخافون من ألسنتهم حتى لا يفقدون
كراسيهم، وكذلك عشنا كيف أن بعضهم بكلمات بسيطة منهم قد ارجعوا حدود دولة اغتصبها
مجرمون، كذلك أُشربنا بأنهم صمام أمان مجتمعاتنا وأن التكاتف والامتثال لأوامرهم
سيحفظ أمننا الاجتماعي من التفرق، وأنهم لا ينفكون عن التفكير فينا وفي همومنا. فإن كانوا حقًا مهتمين لأمرنا فإن طلابهم كثرٌ هنا فليتواصلوا معهم لاستخراج فتوى لا تمنع
الناس من حضور الحفلات الغنائية بل بفتوى توجب أن يحضر الناس في القطيف مجالس أهل
البيت في تلك الليلة، وإن لم يفعلوا (ولن يفعلوا) فإن التقليديين سيخسروا معركة
واحدة، وكي لا يخسروا الحرب فإن عليهم أن يرتقوا بمحتوى المناسبات الدينية
ويطوروها حتى تستوعب أهل الضفة الأخرى قبل فوات الآوان.
(١)
لا أنسى أني حضرت
في شهر محرم المنصرم محاضرة للسيد ضياء الخباز ـ حفظه الله ـ يتكلم فيها عن
التهاون بالمعاصي وذكر منها الغناء وحلق اللحية وكذلك ألا تكلم المرأة أحدًا
في الشارع إلا للضرورة بحدود خمس كلمات والعقاب الشديد لمن يفاكه أي امرأة ألف سنة لكل كلمة فاكهها بها. أُورد هذا المثال لأبين لأي درجة قد يتباين
الطرح المنبري التقليدي عن واقع المجتمع وأنه قد لا يصب في مستلزمات الحياة
المعاصرة وضروريات الواقع الذي يعيشه المجتمع ولهذا قد تنفر أفراد كثيرة من
المجتمع إلى الضفة الأخرى بسببه
Comments
Post a Comment